سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {خيراً}: منصوب بفعل محذوف، أي: أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال؛ لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله: {أساطير الأولين}؛ فهو مرفوع على الخبر؛ لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال؛ لإنكارهم له، وقالوا: هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و{للذين}: خبر، و{حسنة}: مبتدأ، والجملة: بدل من {خيرًا}، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. {جنات عدن}: يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره: {يدخلونها}، أو محذوف، أي: لهم جنات عدن. و{طيبين}: حال من مفعول توفاهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقيل للذين اتقوا} الشرك، وهم المؤمنون: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا}، أي: أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة؛ لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا: أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين، من الكفار، قالوا له: أساطير الأولين، وإذا سال المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} بالإِيمان والطاعة، {حسنة} أي: حالة حسنة؛ من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. {ولَدارُ الآخرةِ خيرٌ} أي: ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا؛ لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثَابُ عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» {ولنعم دارُ المتقين} دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي: {جناتُ عدنٍ يدخلونها} على الأبد، {تجري من تحتها الأنهارُ لهم فيها ما يشاؤونَ} من أنواع المشتهيات؛ حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله: {فيها}؛ تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
{كذلك يَجزي اللهُ المتقين} الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين}: طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي؛ لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل: فرحين؛ لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم؛ لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: {طيبين}: عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة: {ظالمي أَنْفُسِهِم} [النساء: 97؛ والنحل: 28]، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: {طِبْتُمْ فادخلوها} [الزُّمَر: 73]. اهـ.
وقال الترمذي الحكيم: {طيبين} أي: مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم: ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له: ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. اهـ. وهذا معنى قوله: {يقولون سلام عليكم}؛ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم: {ادخلُوا الجنة} بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، {بما كنتم تعملون} في دار الدنيا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث: «لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنْتَ؟ قَالَ: ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه»؟ فالجواب: أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث: نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي؛ وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة في نسبة العمل للعبد؛ فضلاً ونعمة؛ «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك». والحديث سلك مسلك الحقيقة؛ لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون: إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر:
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا *** احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو *** أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا *** لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم: خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر: «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه» وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ» وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول: لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. اهـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل: ماذا أنزل ربكم؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا}؛ أي: بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا {حسنةٌ}: حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، {ولدارُ الآخرة خيرٌ}؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله: {ولَنِعْمَ دارُ المتقين}.
ثم قال: {كذلك يجزي الله المتقين} لكل ما يشغل عن الله؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام: سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {هل ينظرون} أي: ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي: هو أساطير الأولين، {إلا أن تأتيهُم الملائكةُ}؛ لقبض أرواحهم، {أو يأتي أمرُ ربك}: قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم في الدنيا، {كذلك} أي: مثل ذلك التكذيب والشرك، {فعل الذين من قبلهم}، فأصابهم ما أصابهم، {وما ظلمهم الله} بإهلاكهم، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؛ لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم. {فأصابهم} جزاء {سيئات ما عملوا} من الكفر والمعاصي، وهو العذاب، {وحاقَ} أي: وأحاط {بهم ما كانوا به يستهزئون} أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به. والحيْق لا يكون إلا في الشر.
{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء}؛ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة، والاحتجاج على صحة فعلهم، أي: إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله، فهو صواب، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب: أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك، وتحريم ما أحل الله، ونحن مكلفون باتباع الشريعة، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة؛ فإنه زندقة؛ فالشريعة رداء الحقيقة، فمن خرق رداء الشريعة، وتمسك بالحقيقة وحدها، فقد استحق العقاب، ولذلك قال تعالى: {كذلك فعل الذين من قَبلهم}؛ فأشركوا بالله، وحرموا ما أحل الله، وردوا رسله. {فهل على الرسلِ إلا البلاغُ المبين} أي: الإبلاغ الموضح للحق؛ فمن تمسك بما جاؤوا به فهو على صواب، ومن أعرض عنه فهو على ضلال، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، طاعة كان أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لكن الأمر غير تابع للإرادة، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغذاء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي- أي: المعتدل- ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويعييه، فقال: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً} قائلاً: {أن اعبدُوا الله واجتنبوا الطاغوت}؛ أي: يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه، {فمنهم من هدى الله}؛ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه، {ومنهم من حقتْ عليه الضلالةُ}؛ فلم يوفقهم، ولم يُرد إرشادهم؛ فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب، كما ظن المشركون، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل، فقال: {فسيروا في الأرض} يا معشر قريش، {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}؛ كعاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال: {إنْ تَحرِصْ} يا محمد {على هُداهم فإن الله لا يَهْدي من يُضِلُّ} أي: من يريد إضلاله وقضى بشقائه؛ وهو الذي حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول، وهو أبلغ، أي: فإن الله لا يُهدي من يضله، أي: لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. {وما لهم من ناصرين}؛ ليس لهم من ينصرهم؛ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}... الآية. وبالله التوفيق.


قلت: {وأقسموا}: عطف على {وقال الذين أشركوا}؛ إيذانًا بأنهم، كما أنكروا التوحيد، أنكروا البعث، مقسمين عليه؛ زيادةً في القطع على فساده، فرد الله عليهم بأبلغ رد، فقال: {بلى}. قاله البيضاوي. وتقدم الكلام على {بلى}، في البقرة والأعراف، و{وعدًا}: مصدر مؤكد لنفسه، وهو ما دل عليه {بلى}؛ فإن {يبعث} وعد، أي: بلى، وعدهم ذلك وعدًا حقًا، ونصب ابن عامر، فيكون عطفًا على {نقول}، أو جوابًا للأمر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأقسموا} أي: المشركون، {بالله جَهْدَ أيمانهم} أي: أبلغها وأوكدها، {لا يبعثُ اللهُ مَن يموت}، فردَّ الله عليهم بأبلغ رد، فقال: {بلى} يبعثهم؛ {وعدًا عليه} إنجازه {حقًّا}، لا يخلف؛ لامتناع الخلف في وعده، أو: لأن البعث مقتضى حكمته؛ لتنزيه فعله عن العبث، {ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون} أنهم يُبعثون، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة، التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف، ووقوفهم مع العوائد، فتوهموا امتناعه، وقالوا: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرّعد: 5]، ولم ينظروا إلى قدرة الله التي لا يعجزها شيء.
ثم بيَّن حكمة البعث، فقال: {ليُبيِّن لهم} أي: يبعثهم؛ ليبين لهم {الذي يختلفون فيه}؛ وهو الحق من الباطل؛ فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم؛ فيبعثهم الله؛ ليُبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل، {ولِيَعْلَم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} فيما كانوا يزعمون؛ من عدم البعث، وتمسكهم بالحق، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقتضي له من حيث الحكمة، وهو التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل.
ثم بيَّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال: {إنما قولُنا لشيء إذا أردناه أن نقولَ له كن فيكون}، فأمره بين الكاف والنون، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ {كن}، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة، وإلاَّ فلا يحتاج إلى لفظ {كن}، بل مهما أراد شيئًا، أظهره؛ أقرب من لحظ العيون، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تَعَسَّفَهُ ابن عطية وغيره؛ من كون القول في الأزل، وإظهاره فيما لا يزال- يعني: في وقت إظهاره-؛ فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على {كن}. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم: أن الله لا يفتح على فلان، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة، أو من الطغيان والمعاصي، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها، وتلفها في عالم الحس، مع أن القدرة صالحة؛ قال في الحكم: (من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدرًا).
فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه: بلى، يبعثه، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين، وعدًا عليه حقًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم؛ ليُبين لهم الذي يختلفون فيه؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا؛ {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8